الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وقوله: ثم من هؤلاء من جعل تفرقهم إيمان بعضهم وكفر بعض. قال البغوي: ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب، فقال: وهكذا ذكر طائفة في قوله: ومنهم من جعل المتفرقين كلهم كفارًا. قال ابن عطية: ثم ذكر -تعالى- مذمة من لم يؤمن من أهل الكتاب من بني إسرائيل من أنهم لم يتفرقوا في أمر محمد إلا من بعد أن رأوا الآيات الواضحة، وكانوا من قبل متفقين على نبوته وصفته. فلما جاء من العرب حسدوه. وكذلك قال الثَّعْلَبي: ما تفرق الذين أوتوا الكتاب في أمر محمد فكذبوه إلا من بعد ما جاءتهم البينة ـ البيان في كتبهم أنه نبي مرسل. قال العلماء: من أول هذه السورة إلى قوله: وكذلك قال أبو الفرج، قال: أحدها: أنه محمد،والمعنى:لم يزالوا مجتمعين على الإيمان به حتى بعث،قاله الأكثرون. / والثاني: القرآن، قاله أبو العالية. والثالث: ما في كتبهم من بيان نبوته، ذكره الماوردي. قلت:هذا هو الذي قطع به أكثر المفسرين،ولم يذكر الثعلبي، والبغوي، وغيرهما سواه. وأبو العالية إنما قال: الكتاب، لم يقل: القرآن. هكذا رواه ابن أبي حاتم بالإسناد المعروف عن الربيع بن أنس: وهذا التفسير معروف عن أبي العالية، ورواه عن أبي بن كعب. ورواه ابن أبي حاتم وغيره عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، أنه كان يقرؤها: قلت: الاختلاف في كتاب الله نوعان: أحدهما: يذم فيه المختلفين كلهم، كقوله: وإذا كان كذلك، فالذي ذمـه من تفرق أهـل الكتـاب واختلافهـم، ذم فيـه الجميع، ونهي عن التشبه بهم، فقال: وذلك بأن تؤمن طائفة ببعض حق وتكفر بما عند الأخري من الحق، وتزيد في الحق باطلًا، كما اختلف اليهود والنصارى في المسيح وغير ذلك. وحينئذ، نقول: من قال: إن أهل الكتاب ما تفرقوا في محمد إلا من بعد ما بعث، إرادة إيمان بعضهم وكفر بعضهم ـ كما قاله طائفة ـ فالمذموم ـ هنا ـ من كَفَر، لا من آمن. فلا يذم كل المختلفين، ولكن يذم من كان يعرف أنه رسول، فلما جاء كفر به ـ حسدًا أو بغيًا ـ كما قال تعالى: وإن أريد بالتفرق فيه أنهم كلهم كفروا به، وتفرقت أقوالهم فيه، فليس الأمر كذلك. وقد بين القرآن في غير موضع أنهم تفرقوا واختلفوا قبل إرسال محمد صلى الله عليه وسلم. فاختلاف هؤلاء وتفرقهم في محمد صلى الله عليه وسلم هو من جملة ما تفرقوا واختلفوا فيه. والله أعلم.
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله: سورة [التكاثر]، قيل فيها: ثم قال: وعلى هذا القول، يكون المعنى: والله لو تعلمون علم اليقين، لترون الجحيم بقلوبكم، والأول هو المشهور، ومن المفسرين من لم يذكر سواه، وهو الذي أثروه عن متقدميهم، ويدل على صحته وأنه الحق أن قوله: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا}، {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ}،معطوف على ما قبله، فيكون داخلًا في حيزه، فلو كان الأول معلقًا بالشرط،لكان المعطوف عليه / كذلك، وهو باطل؛ لأن رؤيتها عين اليقين، والمسألة عن النعيم ليس معلقًا بأن يعلموها في الدنيا علم اليقين. وأيضًا، فتفسير الرؤية المطلقة برؤية القلب ليس هو المعروف من كلام العرب. وأيضًا، فيكون الشرط هو الجواب، فإن المعنى -حينئذ- لو علمتم علم اليقين، لرأيتم بقلوبكم، وذلك هو العلم، فالمعنى: لو علمتم لعلمتم، وهذا لا يفيد. ولو أريد بمشاهدة القلب قدر زائد على مجرد العلم، فهذا معلوم أن من علم الشيء أمكنه أن يجعل مشاهدًا له بقلبه. وأيضًا، فهذا المعنى لو كان مفيدًا، لم يكن مما يستحق القسم عليه، فإنه ليس بطائل. وأيضًا، فقوله: وأيضًا، فمثل هذا الكلام قد صار في العرف يستعمل في الوعيد ـ غالبًا ـ أو في الوعد. وإذا كان العلم مقيدًا بالسياق اللفظي، وبالوضع العرفي، فقوله: {لَوْ تَعْلَمُونَ} هو ذاك العلم، أخبر بوقوعه مستقبلا، ثم علق بوقوعه حاضرًا، وقيد المعلق به بعلم اليقين، فإنهم قد يعلمون ما بعد الموت، لكن ليس علمًا هو يقين.
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله: قوله: واللَّمْز: كالذم والعيب، وإنما ذم من يكثر الهمز، واللمز. فإن الهُمُزَة واللُّمزَة: هو الذي يفعل ذلك كثيرًا، و[الهمزة]، و[اللمزة]: / الذي يُفْعل ذلك به. كما في نظائره مثل الضحكة والضحكة، واللعبة واللعبة، وقوله: ومـن تدبر القـرآن، وجـد بعضـه يفسر بعضًا، فـإنـه كما قـال ابن عباس ـ في روايـة الوالبي ـ: مشتمل على الأقسام، والأمثال، وهو تفسير {مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ} / ولهذا جاء كتاب الله جامعًا، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( أعطيت جوامع الكلم). وقال تعالى: فلما كانت الحقائق المقصودة والموجودة ترجع إلى أصل واحد، ـ وهو الله سبحانه ـ كان الكلام الحق فيها خبرًا، وأمرًا متشابهًا، ليس بمنزلة المختلف المتناقض، كما يوجد في كلام أكثر البشر، والمصنفون ـ الكبار منهم ـ يقولون شيئًا ثم ينقضونه، وهو جميعه مثاني؛ لأنه استوفيت فيه الأقسام المختلفة، فإن الله يقول: / وهذا في المعاني مثل الوجوه والنظائر في الألفاظ، فإن كل شيئين من الأعيان والأعراض وغير ذلك، إما أن يكون أحدهما مثل الآخر، أو لا يكون مثله فهي الأمثال، وجمعها هو التاليف، وإذا جاءت بلفظ واحد كانت نظائر، وإن لم يكن مثله، فهو خلافه سواء كان ضدًا أو لم يكن. وقد يقال: إما أن يجمعهما جنس أو لا، فإن لم يجمعهما جنس، فأحدهما بعيد عن الآخر، ولا مناسبة بينهما. وإن جمعهما جنس، فهي الأقسام، وجمعها هو التصنيف. ودلالة اللفظ الواحد على المعاني المختلفة تسمي الوجوه. والكلام الجامع هو: الذي يستوفي الأقسام المختلفة، والنظائر المتماثلة جمعًا بين المتماثلين، وفرقًا بين المختلفين. بحيث يبقي محيطًا، وإلا فذكر أحد القسمين أو المثْلَين لا يفيد التمام، ولا يكون الكلم محيطًا، ولا الكلم جوامع، وهو فعل غالب الناس في كلامهم. والحقائق في نفسها: منها المختلف، ومنها المؤتلف، والمختلفان بينهما اتفاق من وجه، وافتراق من وجه. فإذا أحاط الكلام بالأقسام المختلفة، والأمثال المؤتلفة، كان جامعًا، وباعتبار هذه المعاني كانت ضروب القياس العقلي المنطقي ثلاثة: الحمليات والشرطيات المتصلة، والشرطيات المنفصلة. فالأول: للحقائق المتماثلة الداخلة في القضية الجامعة. والثاني: للمختلفات التي ليست متضادة، بل تتلازم تارة، ولا تتلازم أخري. / والثالث: للحقائق المتضادة المتنافية، إما وجودًا أو عدمًا، وهي النقيضان. وإما وجودًا فقط، وهو أعم من النقيضين، وإما عدمًا فقط، وهو أخص من النقيضين. فالحمليات للمثلين، والأمثال. والشرطيات المنفصلة للمتضادين، والمتضادات. ويسمي التقسيم، والسَّبر، والترديد، والبياني. والمتصلة للخلافين غير المتضادين، ويسمي التلازم.
سورة [الكوثر]، ما أجلها من سورة! وأغزر فوائدها -على اختصارها- وحقيقة معناها تعلم من آخرها، فإنه -سبحانه وتعالى- بتر شانئ رسوله من كل خير، فيبتر ذكره وأهله وماله فيخسر ذلك في الآخرة، ويبتر حياته فلا ينتفع بها، ولا يتزود فيها صالحًا لمعاده، ويبتر قلبه فلا يَعِي الخير، ولا يؤهله لمعرفته ومحبته، والإيمان برسله. ويبتر أعماله فلا يستعمله في طاعة، ويبتره من الأنصار فلا يجد له ناصرًا، ولا عونًا. ويبتره من جميع القُرب والأعمال الصالحة، فلا يذوق لها طعمًا، ولا يجد لها حلاوة -وإن باشرها بظاهره- فقلبه شارد عنها. وهذا جزاء من شنأ بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ورده لأجل هواه، أو متبوعه، أو شيخه، أو أميره، أو كبيره. كمن شنأ آيات الصفات وأحاديث الصفات وتأولها على غير مراد الله / ورسوله منها، أو حملها على ما يوافق مذهبه، ومذهب طائفته، أو تمني ألا تكون آيات الصفات أنزلت، ولا أحاديث الصفات قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أقوى علامات شناءته لها، وكراهته لها، أنه إذا سمعها ـ حين يستدل بها أهل السنة على ما دلت عليه من الحق ـ اشمأز من ذلك، وحاد ونفر عن ذلك؛ لما في قلبه من البغض لها، والنفرة عنها. فأي شانئ للرسول أعظم من هذا؟ وكذلك أهل السماع الذين يرقصون على سماع الغنا والقصائد والدفوف والشَّبَّابات، إذا سمعوا القرآن يتلي ويقرأ في مجالسهم استطالوا ذلك واستثقلوه، فأي شنآن أعظم من هذا؟ وقس على هذا سائر الطوائف في هذا الباب. وكذا من آثر كلام الناس وعلومهم على القرآن والسنة، فلولا أنه شانئ لما جاء به الرسول ما فعل ذلك، حتى إن بعضهم لينسي القرآن بعد أن حفظه، ويشتغل بقول فلان وفلان، ولكن أعظم من شنأه ورده: من كفر به وجحده وجعله أساطير الأولين وسحرًا يؤثر، فهذا أعظم وأطم انبتارًا. وكل من شنأه له نصيب من الانبتار، على قدر شناءته له. فهؤلاء لما شنؤوه وعادوه، جازاهم الله بأن جعل الخير كله معاديًا لهم، فبترهم منه، وخص نبيه صلى الله عليه وسلم بضد ذلك، وهو أنه أعطاه الكوثر، وهو من الخير الكثير الذي آتاه الله في الدنيا /والآخرة، فمما أعطاه في الدنيا: الهدي والنصر والتأييد وقرة العين والنفس وشرح الصدر، ونعم قلبه بذكره وحبه بحيث لا يشبه نعيمَه نعيم في الدنيا البتة، وأعطاه في الآخرة الوسيلة والمقام المحمود، وجعله أول من يفتح له ولأمته باب الجنة، وأعطاه في الآخرة لواء الحمد، والحوض العظيم في موقف القيامة إلى غير ذلك. وجعل المؤمنين كلهم أولاده وهو أب لهم، وهذا ضد حال الأبتر الذي يشنؤه ويشنأ ما جاء به. وقوله:{إِنَّ شَانِئَكَ} [الكوثر: 3]، أي: مبغضك. والأبتر: المقطوع النسل، الذي لا يولد له خير ولا عمل صالح، فلا يتولد عنه خير، ولا عمل صالح. قيل لأبي بكر بن عياش: إن بالمسجد قومًا يجلسون ويجلس إليهم، فقال: من جلس للناس، جلس الناس إليه. ولكن أهل السنة يموتون، ويحيي ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم؛ لأن أهل السنة أحيوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فكان لهم نصيب من قوله: فالحذَرَ الحذر أيها الرجل، من أن تكره شيئًا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أو ترده لأجل هواك، أو انتصارًا لمذهبك، أو / لشيخك، أو لأجل اشتغالك بالشهوات، أو بالدنيا، فإن الله لم يوجب على أحد طاعة أحد إلا طاعة رسوله، والأخذ بما جاء به، بحيث لو خالف العبد جميع الخلق، واتبع الرسول ما سأله الله عن مخالفة أحد، فإن من يطيع أو يطاع، إنما يطاع تبعًا للرسول، وإلا لو أمر بخلاف ما أمر به الرسول، ما أطيع. فاعلم ذلك واسمع، وأطع واتبع، ولا تبتدع، تكن أبتر مردودًا عليك عملك، بل لا خير في عمل أبتر من الاتباع، ولا خير في عامله. والله أعلم. وقوله تعالى: وذلك أنه أتى فيه بلام التعريف الدالة على كمال المسمي وتمامه. كقوله: زيد العَالِم، زيد الشجاع، أي: لا أعلم منه ولا أشجع منه، وكذلك قوله: والمقصود أن الكوثر نهر في الجنة، وهو من الخير الكثير الذي أعطاه الله رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وهذا غير ما يعطيه الله من الأجر الذي هو مثل أجور أمته إلى يوم القيامة، فكل من قرأ، أو علم أو عمل صالحًا، أو علم غيره، أو تصدق، أو حج، أو جاهد، أو رابط، أو تاب، أو صبر، أو توكل، أو نال مقامًا من المقامات القلبية من خشية وخوف ومعرفة وغير ذلك، فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجر ذلك العامل. والله أعلم. وقوله: والمقصود أن الصلاة والنسك هما أجَلّ ما يتَقَربُ به إلى الله. فإنه أتي فيهما بالفاء الدالة على السبب؛ لأن فعل ذلك -وهو الصلاة والنحر- سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله إياه من الكوثر، والخير الكثير، فشكر المنعم عليه وعبادته أعظمها هاتان العبادتان، بل الصلاة نهاية العبادات، وغاية الغايات، كأنه يقول: وفي قوله: وفي قوله: ومن فوائدها اللطيفة: الالتفات في قوله:
َقَالَ الشّيخ ـ رَحِمَه الله: في سورة قال أبو الفرج: في تكرار الكلام قولان؛ أحدهما: إنه لتأكيد الأمر وحسم إطماعهم فيه، قاله الفراء. وقد أفعمناهذا في سورة الرحمن قال ابن قتيبة: التكرير في سورة الرحمن للتوكيد. قال: وهذه مذاهب العرب، أن التكرير للتوكيد والإفهام، كما أن مذاهبهم الاختصار للتخفيف / والإيجاز؛ لأن افتنان المتعلم والخطيب في الفنون، أحسن من اقتصاده في المقام على فن واحد. يقول القائل: والله لا أفعله، ثم والله لا أفعله! إذا أراد التوكيد وحسم الإطماع من أن يفعله، كما يقول: والله أفعله؟ بإضمار [لا] إذا أراد الاختصار. ويقول للمرسل المستعجل: اعجل، اعجل! والرامي: ارم، ارم! قال الشاعر: كم نعمة كانت لكم وكم وكم؟ ** وقال الآخر: هل سألت جموع كنـ ** ــــدة يــوم ولــوا أيـــن أيـنا؟ وربما جاءت الصفة فأرادوا توكيدها، واستوحشوا من إعادتها ثانية؛ لأنها كلمة واحدة فغيروا منها حرفًا. قال ابن قتيبة: فلما عدد الله في هذه السورة إنعامه وذكر عباده آلاءه ونبههم على قـدرته، جعـل كل كلمـة فاصلة بين نعمتين لتفهيمهم النعم وتقريرهم بها، كقولك للرجل: ألم أنزلك منزلًا وكنت طريدًا؟ أفتنكر هذا؟ ألم أحج بك وكنت صرورًا؟ أفتنكر هذا؟. قلت: قال ابن قتيبة: تكرار الكلام في قلت: هذا الكلام الذي ذكره بإعادة اللفظ وإن كان كلام العرب وغير العرب، فإن جميع الأمم يؤكدون إما في الطلب، وإما في الخبر، بتكرار الكلام. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله! لأغزون قريشًا، ثم والله! لأغزون قريشًا، ثم والله! لأغزون قريشًا، ثم قال: إن شاء الله، ثم لم يغزهم) وروي عنه أنه في غزوة تبوك كان يقود به حذيفة، ويسوق به عمار، فخرج بضعة عشر رجلًا حتى صعدوا العقبة ركبانًا متلثمين، وكانوا قد أرادوا الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لحذيفة: (قد، قد) ولعمار: (سق، سق). فهذا أكثر، لكن ليس في القرآن من هذا شيء. فإن القرآن له شأن اختص به، لا يشبهه كلام البشر - لا كلام نبي، ولا غيره، وإن كان نزل بلغة العرب- فلا يقدر مخلوق أن يأتي بسورة، ولا ببعض سورة مثله. فليس في القرآن تكرار للفظ بعينه عقب الأول قط. وإنما في / سورة الرحمن خطابه بذلك بعد كل آية، لم يذكر متواليا. وهذا النمط أرفع من الأول. وكذلك قصص القرآن ليس فيها تكرار، كما ظنه بعضهم. و وقد شبهوا ما في سورة الرحمن بقول القائل لمن أحسن إليه،وتابع عليه بالأيادي وهو ينكرها ويكفرها: ألم تك فقيرًا فأغنيتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تك عريانًا فكسوتك؟ أفتنكر هذا؟ ألم تك خاملًا فعرفتك؟ ونحو ذلك. وهذا أقرب من التكرار المتوالي، كما في اليمين المكررة. وكذلك ما يقوله بعضهم: إنه قد يعطف الشيء لمجرد تغاير اللفظ، كقوله: فألفي قولها كذبًا ومينًا فليس في القـرآن مـن هذا شيء، ولا يذكر فيه لفظًا زائدًا، إلا لمعنى زائد وإن كان في ضمن ذلك التوكيد، وما يجيء من زيادة اللفظ في مثل قوله: وكذلك [الذِّبْح] و[الذَّبْح]، فالذِّبح: المذبوح، كقوله: قال أبو الفرج: والقول الثاني أن المعنى: قلت: قد ذكر القولين جماعة، لكن منهم من جعل القول الأول قول أكثر أهل المعاني. فقالوا ـ واللفظ للبغوي: معنى الآية: لا أعبد ما تعبدون في الحال، ولا أنا عابد ما عبدتم في الاستقبال، / ولا أنتم عابدون ما أعبد في الاستقبال. وهذا خطاب لمن سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون. قال: وقال أكثر أهل المعاني: نزل بلسان العرب على مجاري خطابهم. ومن مذاهبهم التكرار إرادة للتوكيد والإفهام، كما أن من مذاهبهم الاختصار للتخفيف والإيجاز. قلت: ومن المفسرين من لم يذكر غير الثاني - منهم المهدوي وابن عطية. قال ابن عطية: لما كان قوله: {لَا أَعْبُدُ} محتملًا أن يراد به الآن، ويبقي المستأنف منتظرًا ما يكون فيه من عبادته، جاء البيان بقوله: قال: فهذا معنى الترديد الذي في السورة، وهو بارع الفصاحة. وليس هو بتكرار فقط، بل فيه ما ذكرته، مع الإبلاغ والتوكيد، وزيادة الأمر بيانًا وتبريا منهم. قلت:هذا القول أجود من الذي قبله من جهة بيانهم لمعنى / زائد على التكرير.لكن فيه نقص من جهة أخري.وهو جعلهم هذا خطابًا لمعينين،فنقصوا معنى السورة من هذا الوجه. وهذا غلط، فإن قوله: وأيضًا، فأولئك المعينون ـ إن صح أنه إنما خاطبهم ـ فلم يكن إذ ذاك علم أنهم يموتون على الكفر. والقول بأنه إنما خاطب بها معينين، قول لم يقله من يعتمد عليه. ولكن قد قال مقاتل ابن سليمان: إنها نزلت في أبي جهل والمستهزئين. ولم يؤمن من الذين نزلت فيهم أحد. ونقل مقاتل وحده مما لا يعتمد عليه باتفاق أهل الحديث، كنقل الكلبي. ولهذا كان المصنفون في التفسير من أهل النقل لا يذكرون عن واحد منهما شيئًا، كمحمد بن جرير، وعبد الرحمن بن أبي حاتم، وأبي بكر بن المنذر، فضلًا عن مثل أحمد ابن حنبل، وإسحاق بن راهويه. وقـد ذكر غيره هـذا عـن قريش مطلقًا، كما رواه عبـد بن حُمَيْد، /عن وهْب بن مُنبِّه قـال: قـالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: إن سـرك أن ندخـل في دينك عامًا وتدخـل في ديننا عـامًا، فنزلت: يا محمد، لو استلمت آلهتنا، لعبدنا إلهك، فنزلت السورة. وعن قتادة قال: أمره الله أن ينادي الكفار فنادهم بقوله: {يَا أَيُّهَا} وروي ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه، قال: كفار قريش، فذكره، وقال عكرمة: برأه الله بهذه السورة من عبدة جميع الأوثان ودين جميع الكفار،وقال قتادة: أمر الله نبيه أن يتبرأ من المشركين فتبرأ منهم. وروي قتادة عن زُرَارَة بن أوفي: كانت تسمى: [المقشقشة]. يقال: قشقش فلان، إذا برئ من مرضه، فهي تبرئ صاحبها من الشرك. وبهـذا نعتها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف في المسند والترمذي من حديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن فروة بن نوفـل عـن أبيه، عـن النبي صلى الله عليه وسلم قـال لـه: (مجيء ما جاء بك؟). قـال: جئـت، يـا رسـول الله؛ لتعلمني شيئًا أقولـه عنـد منامي. قـال: (إذا أخـذت مضجعك فاقرأ: رواه غير واحد عن أبي إسحاق، وكان تارة يسنده، وتارة يرسله رواه عنه زهير، وإسـرائيل مسـندًا. ورواه عنـه شعبة ولم يذكر عن أبيه وقال: [عن أبي إسحاق، عن رجـل، عـن فروة بن نوفل ]، ولم يقل [عن أبيه]. قال الترمذي: وحديث زهير أشبه وأصح مـن حـديث شعبة. قال: وقـد روي هـذا الحـديث مـن غير هـذا الوجـه، فرواه عبد الرحمن بن نوفل، عن أبيه،عن النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الرحمن بن نوفل هو أخو فروة بن نوفل. قلت: وقد رواه عن أبي إسحاق، إسماعيل بن أبي خالد، قال: جاء رجل من أشجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، علمني كلامـًا أقوله عند منامي. قال: (إنك لنا ظِئْر، اقرأ: فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا من المسلمين أن يقرأها، وأخبره أنها براءة من الشرك. فلو كان الخطاب لمن يمـوت على الشـرك، كـانت براءة مـن دين أولئك فقـط، لم تكـن براءة مـن الشـرك الذي يسلم صاحبـه فيما بعـد. ومعلـوم أن المقصـود منها أن تكـون براءة مـن كل شرك ـ اعتقادي وعملي. / وقوله: وروي ابن أبي حاتم، حدثنا أبي ثنا محمد بن موسي الجُرْشي، ثنا أبو خلف عبد الله ابن عيسي، ثنا داود بن أبي هند، عن عَكْرِمة، عن ابن عباس؛ أن قريشًا دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يعطوه مـالا فيكون أغني رجـل فيهم، ويزوجوه ما أراد من النساء، ويطؤوا عقبه ـ أي يسودوه ـ فقالوا: هذا لك عندنا. يا محمد، وكف عن شتم آلهتنا، فلا تذكرها بسوء، فإن لم تفعل فإنا نعرض علي خصلة واحدة، وهي لك ولنا فيها صلاح. قال: (ما هي؟). قالوا: تعبد آلهتنا سنة ـ اللات والعزي ـ ونعبد إلهك سنة. قال: (حتى أنظر ما يأتيني من ربي). فجاءه الوحي من الله من اللوح المحفوظ: وقوله في هذا الحديث: (حتى أنظر ما يأتيني من ربي)، قد يقول هذا من يقصد به دفع الظالمين بالتي هي أحسن ليجعل حجته أن الذي عليه طاعته قد منع من ذلك، فيؤخر الجواب حتى يستأمره، وإن كان هو يعلم أن هذا القول الذي قالوه لا سبيل إليه. وقد تخطب إلى الرجل ابنته فيقول: حتى أشاور أمها، وهو يريد ألا يزوجها بذلك، ويعلم أن أمها لا تشير به. وكذلك قد يقول النائب: حتى أشاور السلطان. فليس في مثل هذا الجواب تردد ولا تجويز منه أن الله يبيح له ذلك. وقد كان جماعة من قريش من الذين يأمرونه وأصحابه أن يعبدوا غير الله، ويقاتلونهم، ويعادونهم عداوة عظيمة على ذلك، ثم تابوا وأسلموا وقرؤوا هذه السورة. ومن النقلة من يعين ناسـًا غير الذين عينهم غيره. منهم من يذكر أبا جهل وطائفة، ومنهم من يذكر عتبة بن ربيعة وطائفة، ومنهم من / يذكر الوليد بن المغيرة وطائفة. ومنهم من يقول: طلبوا أن يعبدوا الله معه عامًا ويعبد آلهتهم معهم عامًا. ومنهم من يقول: طلبوا أن يستلم آلهتهم. ومنهم من يقول: طلبوا الاشتراك، كما روي ابن أبي حاتم وغيره عن ابن إسحاق قال: حدثني سعيد بن مِيْنَاء مولى أبي البَخْتَرِي قال: لقي الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف، رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقالوا: هلم فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، ولنشترك نحن وأنت في أمرنا كله. فإن كان الذي جئت به خيرًا مما بأيدينا، كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه. وإن كان الذي بأيدينا خيرًا مما بيدك، كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه. فأنزل الله السورة. وهذا منقول عن عبيد بن عمير، وفيه أن القائل له عتبة، وأمية. فهذه الروايات متطابقة على معنى واحد، وهو أنهم طلبوا منه أن يدخل في شيء من دينهم، ويدخلوا في شيء من دينه، ثم إن كانت كلها صحيحة، فقد طلب منه تارة هذا وتارة هذا، وقوم هذا وقوم هذا. وعلى كل تقدير، فالخطاب للمشركين، كلهم ـ من مضي، ومن يأتي إلى يوم القيامة. / وقد أمـره الله بالبراءة من كل معبود سواه. وهذه ملة إبراهيم الخليل، وهو مبعوث بملته. قال الله تعالى: وقال الخليل أيضًا: وقال لنبيه: وقد ذكر المَهْدَوي هذا القول، وذكر معه قولين أخرىن. فقال: الألف واللام ترجع إلى معهود وإن كانت للجنس حيث كانت صفة؛ لأن لامها مُخَاطِبة لمن سبق في علم الله أن يموت كافرًا. فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم. وتكرير ما كرر فيها، ليس بتكرير في المعنى، ولا في اللفظ، سوى / موضع واحد منها. فإنه تكرير في اللفظ دون المعنى. بل معنى قال: فقد اختلف اللفظ، والمعنى في قوله:{لَا أَعْبُدُ}، وما بعده، {وَلَا أَنَا}. وتكرر قال: وقيل إن معنى الأول: ولا أنتم عابدون ما عبدت، ومعنى الثاني: ولا أنتم عابدون ما أعبد. فعدل عن لفظ [عبدتُ] للإشعار بأن ما عبد في الماضي هو الذي يعبد في المستقبل ـ قد يقع أحدهما موقع الآخر. وأكثر ما يأتي ذلك في إخبار الله تعالى. ويجوز أن تكون [ما] والفعل مصدرًا، وقيل: إن معنى الآيات وتقديرها: قل يأيها الكافرون، لا أعبد الأصنام، التي تعبدون، ولا أنتم عابدون الذي أعبده، لإشراككم به واتخاذكم معه الأصنام. فإن زعمتم أنكم تعبدونه،فأنتم كاذبون، لأنكم تعبدونه مشركين به. فأنا لا أعبد ما عبدتم،أي مثل عبادتكم.فهو في الثاني مصدر. وكذلك: / قلت: القول الثالث هو في معنى الثاني، لكن جعل قوله: فلما تبرأ من أن يعبد في الحال والاستقبال ما يعبدونه في الماضي والحال، كذلك برأهم من عبادة ما يعبد في الحال والاستقبال. لكن العبارة عنهم وقعت بلفظ الماضي. قال هؤلاء: وإنما لم يقل في حقه: [ما عبدت]، للإشعار بأن ما أعبده في الماضي هو الذي أعبده في المستقبل. قلت: أصحاب هذا القول أرادوا المطابقة كما تقدم. لكن إذا أريد بـقولـه: {مَّا عَبَدتُّمْ} مـا أريـد بقوله: {مَا أَعْبُدُ} ـ في أحد الموضعين الماضي ـ كان التقدير على ما ذكروه: لا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم في الماضي. فيكون قد نفي عن نفسه في المستقبل عبادة ما عبدوه في الماضي دون ما يعبدونه في المستقبل. وكذلك إذا قيل: / وإن قيل: في المستقبل قد يعبدون الله بالانتقال عن الكفر، فهو في الحال والاستقبال لا يعبد ما عبدوه، قيل: فعلى هذا، لا يقال لهؤلاء! ولا أنتم عابدون في المستقبل ما عبدت في الماضي، بل قد يعبدون في المستقبل ـ إذا انتقلوا ـ ربه الذي عبده فيما مضي. وإن قيل: قول هؤلاء هو القول الثاني ـ لا أعبد في الحال ما تعبدون في الحال، ولا أعبد في المستقبل ما تعبدون في المستقبل ـ قيل: ولفظ الآية والقـول الرابـع الذي ذكـره قـول مـن جعـل [ما] مصدرية في الجملةالثانية دون الأخرى. وهـذا ـ أيضًا ـ ليس في الكــلام مـا يــدل على الفـرق بينهما. وإذا جعلت في الجمل كلها مصدرية كان أقرب إلى الصواب مع أن هذا المعنى الذي تدل عليه [ما] المصدرية حاصل بقوله [ما]. فإنه لم يقل: [ولا أنتم عابدون من أعبد]، بل قال: {مَا أَعْبُدُ} / ولفظ [ما] يدل على الصفة بخلاف [من]. فإنه يدل على العين، كقوله: وهذا نظير قوله: فقوله: وأيضًا، فما عبدوا ما يعبده، وهو الموصوف بأنه معبود له على جهة الاختصاص. بل هذا يتناول عبادته وحده، ويتناول الرب الذي أخبر به بما له من الأسماء والصفات. فمن كذب به في بعض ما أخبر به عنه فما عبد ما يعبده من كل وجه. وأيضًا، فالشرائع قد تتنوع في العبادات، فيكون المعبود واحدًا وإن لم تكن العبادة مثل العبادة. وهؤلاء لا يتبرأ منهم. فكل من عبد الله / مخلصًا له الدين فهو مسلم في كل وقت، ولكن عبادته لا تكون إلا بما شرعه. فلو قال: لا أعبد عبادتكم ولا تعبدون عبادتي، فقد يظن أنه تدخل فيه البراءة من كل عبادة تخالف صورتها صورة عبادته. وإنما البراءة من المعبود وعبادته.
|